الجمعة، 15 مايو 2009

الخروبة (ن ك ب ة)

الخروبة
(نـ كـ بـ ـة)

(ن)

ما زلنا نكتبُ، نعيدُ الوحيَ مرةً أخرى في هذا الـ أيار المأخوذِ بزهرات قضمَها من نيسان المذبوحِ على الرمل، وما زادتِ الأسطورةُ عليه غيرَ التلونِ بالشقائقِ الحمراء، وتلونَ أيارُ بأزهارِ الرمان، وبقايا لسعةِ بردٍ تنفذُ في الهزيعِ الأخيرِ من الليل.



نستحضرُ الذكرى ونحُضِرُها وتحَضُرنا، ونعيدُ ضبطَ الذاكرةِ عند منتصف التمام من الوقت، لا أعلمُ لماذا يكونُ التمامُ عند الساعة الثانيةَ عشرةَ من ظهيرةِ كل منتصف ذكرى، وصار النصفُ خروبتَنا العجوز، والمنتَصفُ الآخر قيدَ حلمِ مشروع مُنتصِف، وربما أُفرّح نفسي، التي تسكنُ جُرنَ الفجيعة، والأحزانُ تَرِدُ حزنَها بلحظات ضيقة من الفرح، وتبتسمُ لمن اختارَ منتصفَ الشمس على منتصف القمر، والذي عادةً ما يجذب القصيدةَ إلى سروة عشق الناظم، ويعلقُها على جذعٍ لترقبَ لسعةَ البردِ المغلفةِ بصدفِ البحر، وتستقرُ إلى ما قبل النهر، وربما الحكمةُ من "تشعلق" قمةِ السروِ كي لا تعلقَ على حاجزٍ أو موانع التضاريس غير الطبيعيةِ المثقلةِ بتعابيرِ الغضب وعبريةِ اللغة.

(ك)


عشرون .... خمسون .... سبعون ... يا باصر، عُد إلى ما شئتَ من دهرِكَ واتركْ لي أن أعودَ إلى ما كتبتُه في الخمسين من الذكرى...هذا أنا ابن أمسِ وما تناهيتُ إلى هذه الموسميةِ إلاّ بعد أن تفتَّحتْ أوراقي على العشرية الرابعة... وتلتها سنواتٌ وما بينهما من آحادٍ تتلاصقُ حتى العشرية الخمسينية.


يا لهذي الديالكتيكية، التي ما زالت تحملُ عناءَ الحتمية، وما زالت تقضمُ أظافرَ الوقت، خدشاً على كعبِ القلم، وما خطّ التاريخُ من كُتبٍ، وعلى ما ذاب فيه العمرُ وما تبقى مما لَنا وعلينا، والاعتقادُ الذي أُتخِمنا به حتى بتنا نزينُ الشوارعَ احتفاءً بضدِ النكبةِ والتهارشِ على الإبداع في رسم مفتاحِ ولِدَ خلف بابه أطفالٌ وشابوا، وشهقت قربه أرواحٌ، وصدئت عليه السنواتُ والقلبُ ما زال يبيّض أظلافَه وبصيرتَه لعل امتطاء الحلم قريب!


(ب)

الريح، ما زالت تعلَقُ بها اصطكاكاتُ ألواح الزينكو، وتحملُ غبارَ أطفالٍ يعومون في العراء، يلوكونَ بأضراسهم النيئةِ ظهيرةَ الأيام، والريحُ ما زالت تئنُ حنجرتُها من سعالٍ ينُزُّ حزناً.. وجعاً، وتخفقُ هفته على خيمة يتساقطُ عمودُها...اختلفوا على جذره؛ من جميزةٍ أم من صنوبرِ الكرمل كان...عجوزٌ من خلف الأيام قال: من عظامٍ لم تجدْ خيمةً تؤويها .. وقيل من قلمٍ علقت عليها نبوءة كاتب.

(ـة)

17ع 48 ا 67 ئـ 82 د 87 و 94 ن 2000....ولكم دولةٌ يا أُولي الصبر، فانتظروا تحت فيء السنوات، لا يحزنُكم أصحابُ الشجرة.. على قمتها عالقون، وما لهم من دون الدُنُوِّ اقتراب ... ولا من خطوِ العودة يقتربون ... يحزنون في العام مرةً .. وما الحزنُ بذكرى تمضي .. إذا كان في الصدر هَرِمٌ مقيم.....ويعلق بشهقةِ العودةِ سؤال؛ متى نحتفلُ بزوال الذكرى؟!!

الجمعة، 30 يناير 2009



فزّاعة القلب، غائلةُ الخبز




(كأسُ الحزنِ أعظمُ وأعمقُ من المحيطاتِ
..محيطاتُ الفرحِ أصغرُ من كأس ..أحيانا)



الأصدقاء، الذين يعدّون المراثي... والدّمعَ المُجمَرَ على خدِّ الكراريسِ وقرطاسياتِ طفلٍ... الممتلئة بقنوات وكُثبان ونتوءات تُعجزهم عن الوصول إلى تشييع ما تبقى من هواء ملوث في رئاتهم المكتظة بالذّرِّ وهُبابِ الانتظار وبُراداتِ صباحٍ (لا يأتي) على شفا صباحٍ..
الأصدقاءُ المتعبونَ ... الأصدقاءُ الذينَ يمضغهمْ حزنهمْ وأجرانه المكتظة بالمباكي..هلْ يفرحون في اللّحظةِ الضّيقةِ وفي اللّحظةِ التي تضيقُ باللّحظةِ.. كلُّ شيءٍ مؤجلٌ وكلُّ شيءٍ سيفتح عمّا قليل أجرانه ويتطاير كالنحل المُعادي أو كأرتالِ النّملِ الضّاريةِ ..ثمّةَ منْ يبحث عن وترياتٍ في قياثرَ يَشدُّ عليها شرايينهُ وقياثرَ من ضلعِ الفتى .. أيُّ فتىً هذا .. أيُّ ركنٍ ينزوون به ويشعلون ما تبقى منْ لفافاتِ الأيامِ و من فرح يحرقونه في بياض ورق التبغ لإدارة مراسم الأسى والفجيعة التي تكتظ بها أزقة الذكريات .
هكذا ... بتُّ ما بِتُّ أخشى فتح بريدي الالكتروني( بريدي المُتأخرَّ ليلاً عن بريدي وبريد الذي من ورقةِ عنبٍ وبريدي الذي يتطايرُ في الخريفِ أوراقَ النبتِ )
كل يوم.. أخشى فزّاعة الهدأةِ (متى يحينُ قطارُ الليلِ في سلامِ السماواتِ) وسأنتظرُ منْ خلف العناوينِ الفادحةِ ...أو على شريط لايبلغُ هدبي أو ما يدخلُ سدىً في العينينِ.. لي لعنةٌ لا تشبهُ اللّعنةَ ... من يغفرُ لي نسياني وما يلوكهُ القلبُ حديداً..متى تجتاحُ البلابلُ ضلوعي..هلْ لي أنْ أتمرّغَ (لو في الحُلمِ) في راحةِ الضّحى او على نهدينِ لمْ يبلغا لبنَ الطيرِ.. قلبي خابيةُ العسلِ الأسودِ ..خابيةُ القطيّنِ ومأوى الحزنِ ..قلبي روزنا سَبَلاتِ بلا مواسمَ ... الحزن المعتّق الذي ينبت كلما تعاقبت عليه الأيام يقوى دون شتاء اللوعة..كالفرح الذي لا ينمو أو كالفرحِ المُصابِ بفقرِ الفرحِ .. لا يتشعلق الخرّوبةَ العجوزَ وكاحلَ السّروةِ التي تمنحني أن أثبتَ في السّماواتِ ..

بت أتحسس خوفاً وأطفئ ضوء الممرّ... حتى لا أرى قصائد النعيَ والأحزان وتبادل رسائل العزاء... التي بتنا نتقن فن نثرها وبعثرتها... ونكدس كل مواقع القرية العنكبوتية فيها .

اذكر جيدا نعيي الأولَ لصديق أُستشهد واُغتيلت الذاكرة معه أو قبله... لا ادري بالضبط أيهما اسبق إلى الشهادة..

قلت ذات يوم بفلسفة؛ إننا بتنا خلف جدار الصدمة لا نكترث لأي شيء من كُثرِ ما شيعنا ذاكرتنا في انتفاضتين وثورة على الحدود ... بعضها علق على الأسلاك الشائكة وبعضها علّقَ نفسهُ على أعمدةِ الكهرباءِ و توارى تحت رقم مازال في حلقة المجهول ....
المجهول هو البياضُ ..

الذاكرة... الرسالة المتطايرة أو الممزقة على أرض غرفة تمتلئ بالنحيب وبالشعر وبالقصص المبتورة أو السرد الذي ينقصهُ السّردُ..

صورة... قد تعلق هنا؛ إخترْ أيهما أجمل... وزد من حجمها... وأنعى كيفما شئت وسطرّ (ذكراك فينا خالدة الأبد) .. وبالموت وما عليه بالنسيان.. وبالنسيان الموت الذي لا ينسى... والموت المحقق ... أو الحقيقة التي نُكابر في نسيانها...أو محاولة النسيان المتكرر وأضاعتها بضحكة وغناء خوفاً في طريق معتمة برية موحشة يُخيْل لك أن غولة حكايات الجدة تتربص لك فيها .

لعل صديق لي ما زالت كلمته تعلق في ذاكرتي وارددها كلما أُفجع بصديق أو بمعرفة يفارقنا ابداً ويرحل .. المعرفة ضلالةٌ .. أكررها المعرفة لؤلؤةٌ يا صديقي يوسف..

تماماً المعرفة متعبة...مثقلة بهاجس ما ستكون عليه عمّا قليل ... كلما تعرفت على وجه جديد احزن أكثر مما افرح.. لا أدري .. الفراق حليف من فينا؟!..
من يرثي منْ ؟!... والمراثي كثيرة ...كما المقابر التي لا أعلم حتى اللحظة كيف لا تضج وتغلق سرادقها بوجه هذا الاجتياح الجنائزي ... وربما تحتاج إلى نظرية علمية لتفسر كيف تتسع لهذا الكم المُسافر... المستقر فيها ابد الدهرحتى قيام القيامة التي وعد الله بها عباده و خلقه.